“النجمة الصاعدة (فيكتوريا نايكا) تُغنّي ما لا يُقال بالمهرجان الدولي بالحمامات: صوتٌ سائل وجسدٌ يكتب المعنى”
في ليلة غير مألوفة عاشها جمهور مهرجان الحمامات الدولي في سهرة 14 جويلية 2025، قدمت النجمة الصاعدة نايكا حفلا مميزا أمام جمهور متنوع وشبابيك مغلقة، واعتلت الركح بطاقة مقتدرة استيتيقيا وصوتيا وجسديا، كمن يحمل العالم في صوته، وانسابت مثل نهر من الثقافات و الطاقات، والانفعالات.
نايكا، صوت العالم المتعدد:
نايكا (Naïka) فنانة ومؤلّفة أغانٍ عالمية، وُلدت في ميامي سنة 1998 لأب من مدغشقر وأم من هايتي، وتنتمي إلى جيله جديد من الفنانين الذين لا يعترفون بالحدود الفنية أو الثقافية. هي ابنة الهجنة والعبور، تربّت بين قارات وثقافات متعددة — من جوادلوب إلى باريس، ومن كينيا إلى جنوب إفريقيا — وتُجسّد في فنّها مفهوم “الهوية المتنقلة”، حيث لا وطن ثابت سوى الإبداع.
موسيقاها تُصنّف ضمن ما يُعرف بـ “البوب العالمي” (World Pop)، لكنها أبعد من تصنيف. فهي تمزج بين البوب، الـR&B، الموسيقى الكاريبية، الإفريقية، الفرنسية، والإلكترونية، مستخدمة لغات متعددة (الإنجليزية، الفرنسية، الكريولية) كجسور لا كعوائق. أغنياتها ليست فقط للتسلية، بل تحمل قضايا الذات، تحرّر الجسد، مقاومة التنميط، والاحتفاء بالاختلاف.
برزت نايكا عالميًا سنة 2017 بأغنيتها “Ride”، التي لاقت نجاحًا على المنصات الرقمية، وكرّست اسمها بين الأصوات الصاعدة. تبِع ذلك إطلاق سلسلة من الأغاني التي لاقت رواجًا واسعًا ، أبرزها “African Sun”، “Ma Chérie”، و”Sauce”، إلى جانب ألبومها القصير (Lost in Paradise) الذي كشف عن رؤيتها الفنية المتحررة.
لكن نايكا ليست فقط صوتًا يُغنّي، بل جسدٌ يُفكّر، وحضور ركحيّ يُعيد صياغة علاقة المرأة بجسدها وبفنها. رقصها ليس زينة، بل لغة، وأداؤها على المسرح يُجسّد التقاء الصوت بالحركة في انسجام يثير الحواس والفكر معًا. تؤمن أن الفنّ الحقيقي لا يُترجم، بل يُعاش، ولذلك فإن عروضها الحية تُعتبر تجارب حسّية شاملة، أكثر منها مجرد حفلات غنائية.
في زمن الهوية المغلقة والانغلاق الثقافي، تُقدّم نايكا مشروعًا فنيًا بديلًا: فنًّا بلا جدران، لغةً بلا مركز، وجسدًا لا يعتذر. إنها ابنة اللحظة الكونية، حيث تتداخل اللغات، وتنصهر الأعراق، ويتحوّل الصوت إلى وطن متنقل.
تعبيرية الجسد الحر:
منذ اللحظة الأولى، بدا العرض مختلفًا. لم تكن نايكا هناك فقط لتغني، بل لتُعلن حضورها الفني ككيان مستقل، متحرّر، وعابر للحدود. بكاريزما آسرة وخفة جسد مدروسة، فتحت أولى أغانيها بإيقاع حار يشبه النبض الأول لرحلة استكشاف فنية لا تهدأ. الأغنية الافتتاحية “African Sun” لم تكن سوى بطاقة تعريف لهوية موسيقية هجينة، تتغذى من أصوات الأرض كلّها، وتعيد تشكيلها في قالب بوب عصري جريء.
لم يكن العرض صوتيًا فقط؛ كان تجربة جسدية بالكامل. فرقص نايكا على الركح لم يكن مجرد أداء حركي مكمّل، بل أداة تعبير قائمة بذاتها، تقول ما لا تقوله الكلمات. كانت تتحرك بثقة امرأة تعرف أين تضع قدمها، كيف تنقل طاقتها للجمهور، وكيف تجعل من الموسيقى مجالًا حيًا للمشاركة الجماعية. تحوّل المسرح إلى فضاء احتفالي، تتحرر فيه الأجساد من رقابتها اليومية، وتلتحم الأصوات، النسوية منها تحديدًا، في لحظة انعتاق خالص. أما أغنيتها “My Body, My Choice”، التي قدّمتها في منتصف العرض، فقد شكّلت لحظة ذروة فكرية وفنية. غنتها بإصرار وهدوء، ثم فجّرت صوتها في مقطعها الأخير كما لو أنها تحتجّ لا على قانون معيّن، بل على عالم كامل يقيّد النساء ويخشى حريتهن.
نايكا تغني حافية: الجسد في تماس مباشر مع الأرض:
أن تغني نايكا حافية القدمين على ركح الحمامات، فذلك ليس مجرد خيار مريح أو أسلوبي، بل إعلان شعريّ عن علاقة الجسد بالمكان، وبالطبيعة، وبالحرية. حفاؤها يُنزل الغناء من برج الأداء التقني إلى لحظة حسية خالصة، تُلامس فيها الأرض كما تُلامس المشاعر، وتندمج في الفضاء بكل تحرّرها الجمالي. للحفاء معان في عرض نايكا؛ إنه تمرين في العودة إلى الطبيعة، إلى الجسد قبل التقييد، إلى الإيقاع قبل التصنيع. تسير وتتمايل وتدوس خشبة المسرح كأنها تقول: “هذا الجسد ليس مزيّنًا للعرض، بل هو الأداة، هو اللغة، هو الحضور”. وفي مهرجان الحمامات، حيث المسرح مكشوف على السماء، يصبح الحفاء طقسًا وجوديًا، فهو صلة حقيقية بين الفنانة وجغرافيا العرض ، خشبة، هواء، إضاءة، إيقاع، وجسد لا يتوسّط فيه حذاء بين اللحم والخشب. هكذا تؤكد نايكا، دون أن تنطق، أن الفنّ في جسده الخام، أصدق وأكثر حرية. فكل خطوة حافية لها على الركح، كانت إيقاعًا إضافيًا، غير مسموع لكنه محسوس، يحمل معنى الانتماء إلى الأرض والتحرر من “الكليشيهات”.
لغة بلا حدود: الغناء بين الفرنسية، الإنجليزية، والكريولية:
إن ما ميّز الحفل أيضًا هو الاستعمال الذكي والمتناغم للغات. نايكا تتنقل بسلاسة بين الإنجليزية، الفرنسية، والكريولية، ليس فقط كخيار فني، بل كترجمة حقيقية لهوية إنسانية هجينة. لم يكن هذا التنقل مربكًا للجمهور، بل كان دافعًا للانجذاب؛ كأن كل لغة تفتح بابًا جديدًا لفهم الذات والآخر. أغنية “Ma Chérie” مثلاً، جمعت بين النعومة الفرنسية وإيقاع البوب اللاتيني، فيما حملت “Sauce” طاقة مرحة وانسيابية جسدية جعلت من المدرجات ساحة رقص مفتوحة. تتحوّل اللغة إلى مادة موسيقية، تُدمج وتُكسّر وتُعيد التشكّل لتُلائم الحالة الشعورية، لا قواعد النحو. ليست التعددية اللغوية عند نايكا خيارًا تجميليًا، بل هي ضرورة وجودية، تعكس جذورها المتعددة وتجربتها كابنة للعالم، لا تنتمي إلى جغرافيا واحدة، بل تسكن في تقاطع الثقافات.”
جمهور الحمامات: شريك في العرض لا مجرد متفرج:
لم يكن الجمهور متلقٍّ صامتًا، بل كان فاعلًا في العرض. تجاوبه لم يقتصر على التصفيق أو الرقص، بل تجاوزه إلى التفاعل العاطفي الحقيقي، وخصوصًا في اللحظات التي تحدثت فيها نايكا عن أصولها، عن الهجرة، وعن الشعور الدائم بأنها “من كل مكان ولا تنتمي بالكامل إلى أي مكان”. كان الجمهور التونسي متقبّلًا، حيًا، وكأن في تجربته الذاتية مرآة تعكس ما تقوله نايكا عن التشظي والبحث عن جذور.
منذ لحظات العرض الأولى، كان واضحًا أن ما يحدث على الركح لا يُمكن أن يُكتمل دون تجاوب الجمهور، الذي انخرط جسديًا ووجدانيًا في طاقة نايكا الآسرة. وفي كل إيماءة منها، وفي كل انتقال لغوي أو نغمي، كان الجمهور يُجيب تلقائيًا — يرقص، يُنادي، يُردد، ويحتفي. لم يكن التفاعل نتيجة موسيقى راقصة فقط، بل لأن نايكا قدّمت نفسها بصدق، خاطبت جمهورها بعفوية وبالفرنسية أحيانًا، وانفتحت عليه كأنها تعرفه منذ زمن. وهنا تكمن قوة عرضها: في قدرتها على تفكيك الحواجز بين الفنان والجمهور، وتحويل الحفل إلى مساحة مشتركة للانفعال والتعبير.
إنتاج موسيقي متقن، وفريق داعم متعدد الجنسيات:
من الناحية التقنية، كان العرض محترفًا إلى أقصى الحدود. التوازن الصوتي ممتاز رغم صعوبة الأداء في فضاء مفتوح، الإضاءة ذكية ومتغيرة حسب نبرة الأغاني، والفرقة الموسيقية المصاحبة (التي ضمت عازفين من أميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا) أضافت عمقًا حيًا للأداء. بدا واضحًا أن العرض ليس ارتجالًا، بل ثمرة تمرين دقيق على التناغم بين الصوت، الحركة، والإضاءة.
فرغم طابعها العفوي الظاهري، تقوم عروض نايكا على هندسة موسيقية دقيقة وتخطيط ركحي محكم. حفلتها في الحمامات لم تكن استعراضًا مرتجلًا، بل تجربة صوتية–بصرية متكاملة، تُظهر مستوى عالٍ من الإعداد والوعي الجمالي. كان الصوت مضبوط بعناية، وكانت الإيقاعات موزونة بشكل يسمح للرقص بالتنفس، والأغاني تُقدَّم في تنقّلات مدروسة بين الهدوء والانفجار. يتبدّل الإيقاع كما يتبدّل الضوء، في تناغم يُضفي على العرض حيوية لا تهدأ.
وراء هذا الأداء المتوهّج، يقف فريق فني متعدّد الجنسيات والخلفيات، يشكّل امتدادًا طبيعيًا لهوية نايكا العابرة للحدود. من العازفين إلى مهندسَي الصوت والإضاءة، يبدو أن كل عنصر في الفريق يُضيف طبقة جديدة من التنوّع والإتقان، ما يمنح الحفل روحه العالمية دون أن يُفقده الطابع الحميمي. إن هذا المزج بين الهوية العالمية والانضباط المهني هو ما يجعل تجربة نايكا فريدة: فهي لا تراهن فقط على الحضور الكاريزمي أو الغناء العاطفي، بل تُقدّم فنًّا مكتمل الأركان، حيث تشتغل التفاصيل الصغيرة بنفس أهمية الإحساس الكبير.
نايكا،مشروع فني أكثر من مجرد مغنية:
لعل ما يُخرج عرض نايكا عن كونه مجرد حفلة موسيقية هو أنها تحمل مشروعًا فنيًا متكاملًا: صوت يعبر عن جيل من “أبناء الثقافات الثالثة”، شباب لا يجدون أنفسهم في خطاب وطني ضيق، بل يصوغون ذواتهم من التعدّد والاختلاف، دون خجل أو تبرير. في حفلها بالحمامات، كانت نايكا تُجسّد هذه الفكرة بصوتها، بلغاتها، بجسدها، وبحضورها الركحي.
انطباعات الجمهور: الدهشة، الانجذاب، والتحرر.
تناغم الجمهور مع الطاقة التي انفجرت على الركح، وشوهدت في الوجوه دهشة، وفي الروح حالة وجدانية يصعب توصيفها. ثم تحولت هذه الدهشة إلى إعجاب رقص و تفاعل مع المطالبة بالمزيد من الغناء. استسلم الجمهور المتنوع للايقاع، ورقص بكل عفوية وتماهى مع المعنى الأعمق للعرض في حالة استيتيقية تشاركية جامعة بين المتعة والتأثر، وهو ما جعل الجمهور يغادر المسرح دون أن يتقبل انتهاءه بسرعة، لكنهم غادروا أقل ثقلا، كأنهم تخلّصوا من تحفظ غريب أو من قيد داخلي لفه الصمت وأنطقه الايقاع.
ريم خليفة
الحمامات، 14 جويلية 2025