المهرجان الدولي للفنون الشعبية بمسرح أوذنة الأثري: دورة تأسيسية بروح عابرة للحدود
يحتضن المسرح الأثري بأوذنة فعاليات الدورة الأولى من المهرجان الدولي للفنون الشعبية من 26 جويلية إلى 5 أوت 2025،، بتنظيم من وزارة الشؤون الثقافية، وبالتعاون مع وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية والمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بولاية بن عروس. ويقدّم المهرجان 11 سهرة فنية متنوّعة، يغلب عليها الطابع الشعبي ممزوجًا بالهوية الثقافية والبعد الفني المسرحي.
جاءت الدورة الأولى من المهرجان الدولي للفنون الشعبية لتؤسس لحظة احتفالية عابرة للحدود، حيث يتحوّل الفن الشعبي من مجرد فولكلور محفوظ في الذاكرة إلى لغة حية تُروى بها حكايات الشعوب. إنّ تونس، باحتضانها لهذا الحدث، تفتح نافذة على تراث العالم، من موقع التفاعل لا الاستهلاك.
عرض “أصائل”: افتتاحٌ بطقوس الذاكرة والوجدان.
انطلقت مساء أمس السبت 26 جويلية 2025 فعاليات المهرجان على ركح مسرح أوذنة الأثري، في أجواء احتفالية ضخمة جسّدت التقاء التراث الحي بالركح العريق. وقدّمت الفرقة الوطنية للفنون الشعبية عرضها الافتتاحي “أصائل”، بقيادة المايسترو عماد عمارة، في شراكة مع مسرح أوبرا تونس، مستعرضة لوحات راقصة وموسيقية مستلهمة من الذاكرة الجماعية للجهات التونسية. ونجح العرض في مزج البعد الفني بالروح الطقسية للفنون الشعبية، حيث تعاقبت الأهازيج والحركات التعبيرية في تناغم بصري وسمعي شديد الجاذبية. وقد عبّر الحضور عن إعجابهم بالتنفيذ الدقيق، والأداء الجماعي المتماسك، والتوظيف الذكي للموروث اللامادي في سياق احتفالي حديث، ما جعل الافتتاح إعلانًا رمزيًا عن ولادة مهرجان طموح يحتفي بالهوية ويعيد الاعتبار للفن الشعبي كرافد ثقافي حيّ.
الفرقة الوطنية للفنون الشعبية: حارسة الهوية الثقافية.
تأسست الفرقة الوطنية التونسية للفنون الشعبية عام 1962، وتُعدّ واحدة من أبرز المؤسسات الثقافية في تونس، وركيزة أساسية للحفاظ على التراث اللامادي التونسي وتطويره. تعكس الفرقة عبر عروضها المتنوعة ثراء التنوع الثقافي والجغرافي لتونس، حيث توثق وتقدم الرقصات الشعبية، الموسيقى التقليدية، والأزياء التراثية من مختلف جهات البلاد. وتبرز من خلال نشاطها المستمر في المهرجانات المحلية والدولية كواجهة فنية تُعرّف العالم بالتراث التونسي الأصيل.
عماد عمارة: مهندس الرؤية الفنية.
انضم عماد عمارة إلى الفرقة في عام 1985 كراقص، وتدرج حتى أصبح راقصًا منفردًا منذ عام 1988، قبل أن يتولى لاحقًا منصب المدير الفني. تحت قيادته، شهدت الفرقة تطورًا ملحوظًا، حيث نجح في الجمع بين الأصالة والابتكار، فقادها لتقديم عروض تجمع بين الارتباط العميق بالموروث الشعبي والبعد المعاصر في التمثيل والحركة. هذه الرؤية الفنية جعلت من الفرقة جسراً ثقافياً بين الأجيال، يربط التراث بالحداثة ويمنح الجمهور تجربة فنية تجمع بين الأصالة والتجديد.
بفضل إبداع عماد عمارة وفريقه، تمكنت الفرقة من الارتقاء بمستوى الأداء والتصميم المسرحي، حيث أصبحت عروضها لا تكتفي بعرض الرقصات والموسيقى فقط، بل تتجاوز ذلك إلى سرد قصصي متكامل يُبرز القيم الاجتماعية والإنسانية المتأصلة في التراث التونسي. كما عملت الفرقة على توسيع دائرة تأثيرها من خلال التعاون مع مؤسسات فنية محلية وعالمية، مما ساهم في تعزيز مكانة التراث التونسي على الساحة الفنية الدولية.
وعلى امتداد مسيرته داخل الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، أدار عماد عمارة مجموعة من العروض المتميّزة التي عكست رؤيته الفنية القائمة على المزاوجة بين وفاءٍ عميق للتراث الشعبي التونسي وجرأةٍ في التجديد المسرحي. من بين أبرز هذه العروض نذكر “ودوني”، الذي شكّل تجربة مسرحية موسيقية مزجت بين الرقص الشعبي والموسيقى السمفونية، وعرض”النوالة” الذي استلهم أساطير الجنوب وملاحم التغريبة في بناء درامي حركي مشحون بالعاطفة، إلى جانب عرض “دبك الطبل” الذي احتفى بالإيقاع كنبض جماعي مشترك بين الجهات. هذه التجارب وغيرها كانت بمثابة محطات تحضيرية لرؤية أكثر نضجًا وتكاملاً، تجسّدت في عرض “أصائل”، حيث برزت قدرة عماد عمارة على تحويل المادة الشعبية إلى مشاهد مسرحية حية، نابضة بالجمال والحركة والرمزية.
اليوم، تُعتبر الفرقة الوطنية للفنون الشعبية بقيادة عماد عمارة علامة بارزة في المشهد الثقافي، تواصل دورها الحيوي في الحفاظ على الهوية الوطنية ونقلها للأجيال القادمة، مع مساهمة فعالة في إثراء المشهد الفني التونسي والعالمي.
.“أصائل”: كتابة ركحية للتراث الشعبي
افتُتح عرض “أصائل“ بلوحة غارقة في الروحانية، جمعت بين الحضرة الصوفية والتعبير الكوريغرافي المسرحي، في مشهد افتتاحي أقرب إلى الطقس منه إلى العرض. تقدّم الراقصون في تشكيل دائري مهيب، تتوسّطه حركة دوّامية جسّدت الدوران الصوفي كبحث عن المعنى وقد منح هذا المزج العميق بين الإيقاع الداخلي للجسد والإنشاد الجماعي، العرض بعدًا روحانيًا قويًا، جسّد العلاقة بين الفن الشعبي والوجد الروحي.
تميّزت اللوحة أيضًا بـاعتماد أزياء تراثية تقليدية، صُمّمت بعناية لتجسّد الروح الصوفية وتستحضر هوية اللباس الشعبي التونسي، حيث غلبت الأقمشة البيضاء والطرز اليدوي والشاشية التونسية والمظلة والكدرون والبلوزة والحولي والحرام وحزام الصوف والمحارم الملونة والفرملة المطروزة ، في توازن بصري يجمع بين الأصالة والجمال. وقد ساهمت هذه الأزياء، إلى جانب الإضاءة الدافئة ذات الطيف الذهبي، في خلق هالة طقسية على المشهد، بينما تدرّجت الموسيقى من الهمس الخافت إلى الانفجار الطقسي، في بناء درامي متناغم بين الصوت والحركة والفراغ، جعل من هذه الافتتاحية تجربة حسّية شديدة الكثافة والانخراط، تُعلن منذ اللحظة الأولى أن “أصائل” ليس مجرد عرض فولكلوري، بل كتابة ركحية للذاكرة الروحية الجماعية.
لوحات تحاكي طقوس الحياة اليومية.
بعد الانطلاقة الروحية للوحة الافتتاح التي جمعت بين الحضرة الصوفية والبعد الكوريغرافي المسرحي، استمر عرض “أصائل“ في استحضار التراث التونسي الغني عبر مجموعة لوحات متتابعة تعبّر عن مختلف أوجه الحياة الشعبية. انطلقت اللوحات بحركات مستوحاة من طقوس الحصاد والفلاحة، حيث جسّد الراقصون ارتباط الإنسان بأرضه عبر إيقاعات الربوخ ونبضات الطبول، في أداء مفعم بالحيوية والدقة. تلتها لوحة مفعمة بالفرح والبهجة تحتفي بالأعراس والاحتفالات الشعبية.
عبّرت لوحات عرض “أصائل“ عن تمكن واضح من الجانب المسرحي الكوريغرافي، حيث لم تقتصر على تقديم الرقص الشعبي بمدارسه المختلفة فحسب، بل ارتقت به إلى مستوى فنٍّ مسرحي متكامل. فقد استطاع الراقصون عبر حركات مدروسة بدقة وتناسق عالٍ أن ينسجوا سردًا بصريًا يحمل في طيّاته الرمزية والعمق الثقافي، مع المحافظة على أصالة التراث الشعبي وتنوعه الجغرافي بين جهات تونس المختلفة. هذا التمكن المزدوج، من الإحساس المسرحي والتنفيذ الفني للرقصات الشعبية، أضفى على العرض بعدًا جديدًا من التعبير الفني، حيث التقاء الحكي بالجسد، والتحرر الإبداعي بالأصالة، ليخلق تجربة حسّية وفنية تجمع بين الفولكلور والابتكار في آنٍ واحد.
الاخراج المسرحي والكتابة الركحية لأغان عتيقة من الذاكرة التونسية:
تميّز عرض “أصائل” أيضًا بإخراج ركحي مبتكر للأغاني العتيقة التونسية، التي أعيد تقديمها برؤية معاصرة تحترم أصالتها وتضفي عليها بعدًا مسرحيًا حيًا. من بين أبرز هذه اللحظات، برزت لوحة “عرضوني زوز صبايا” التي تحوّلت من أغنية تراثية محبوبة إلى مشهد ركحي غني بالحركة والتعبير الجسدي. فقد تضافرت عناصر الأداء الراقص، والإيماء المسرحي، والتصميم الإيقاعي الدقيق، في ترجمة بصرية للأغنية، ما أضفى عليها روحًا سردية جديدة تلامس الذاكرة والوجدان. بدا الراقصون وكأنهم يعيدون تمثيل القصيدة الشعبية بمفردات الجسد والصورة، فغدت الأغنية حكاية تُروى على الركح، حيث التقاليد تتحرّك وتتنفس ضمن فضاء فني مشحون بالرموز والدلالات. هذا التوظيف الذكي للأغاني التراثية منح العرض بعدًا شعريًا إضافيًا، وجعل من “أصائل” جسرًا بين الذاكرة السمعية والفرجة المسرحية.
أزياء بلون الفرح، والبسمة لا تفارق وجوه الراقصين:
تميّزت أزياء عرض “أصائل“ بألوانها الحارة والمفعمة بالفرح والبهجة، حيث اختيرت بدرجات زاهية من الأحمر والبرتقالي والأصفر، ما أضفى على المشاهد حيويةً وجاذبيةً بصرية لا تخطئها العين. هذه الألوان الدافئة لم تكن مجرّد اختيار جمالي، بل كانت وسيلة فعّالة تشدّ انتباه المتفرج وتغمره بأجواء احتفالية تنشر الفرح والحماس، فتتحول كل حركة وكل مشهد إلى نبض نابض بالحياة، يعكس عمق التراث وروحه المضيئة.
سينوغرافيا العرض: بين الرقي البصري وعبق التاريخ.
تميّزت السينوغرافيا على ركح عرض “أصائل“ بالبساطة الرشيقة التي سمحت للرقص والموسيقى أن تتصدر المشهد، مع استغلال ذكي لعناصر التراث والمكان الأثري لتعزيز الأجواء. استخدم التصميم الضوئي ألوانًا دافئة تنسجم مع ألوان الأزياء، تدرّجت بين الذهبي والبرتقالي لتخلق هالة من الحميمية والدفء، تعكس روح الفرح والاحتفال الشعبي. كما استُخدمت الإضاءة الزرقاء لتضفي بعدًا روحانيًا هادئًا، مع هالات نارية جانبية أضافت ديناميكية وحركة بصرية مشوقة.
تباين آراء الجمهور حول المهرجان:
لم يكن الاقبال الجماهيري غفيرا على السهرة الاولى، ولكن من حضروا تفاعلوا مع فقرات الحفل، رغم تباين وجهات النظر حول فكرة تحويل مهرجان اوذنة من مهرجان متنوع الى مهرجان دولي متخصص في الفنون الشعبية، فحسب التصريحات التي قدمتها التلفوة الوطنية، ثمة من استحسن فكرة التخصص في الفنون الشعبية وثمة من يرى أنه من حق جماهير مسرح أوذنة ان تشاهد عروضا متنوعة فقد يتعذر عليه مواكبة عروض هامة في مهرجان قرطاج أو غيره من المهرجانات.
برمجة ثرية: أحد عشر عرضًا يحتفون بالهوية والتنوع.
تتواصل العروض في سهرة الأحد 27 جويلية مع الفنان الهادي الدنيا. أمّا الاثنين 28 جويلية فيكون الجمهور مع عرضً مشترك بين عبد الرحمان الشيخاوي (غنايا) ونضال اليحياوي (مسرب الهطايا). وتأتي سهرة الثلاثاء 29 جويلية المقبل مع الفنان المصري محمود الليثي، ثم تليها يوم الأربعاء 30 جويلية سهرة “Tunisia Latina” بمشاركة إقبال الحمزواي ومريم العبيدي. أما الخميس 31 جويلية، فسوف يكون الموعد مع الفنان سمير لوصيف، ليُختتم الأسبوع الأول من البرمجة يوم الجمعة 1 أوت بعرض “اسمع إلى تحب عليه” لزينة القصرينية. ثم يتواصل البرنامج يوم السبت 2 أوت مع الفنان وليد التونسي، ثم الفنان نور شيبة في سهرة الأحد 3 أوت. وتُخصَّص سهرة الاثنين 4 أوت لعرض تقليدي لفرقة الكوفية الفلسطينية، على أن يُختتم المهرجان يوم الثلاثاء 5 أوت بعرض “ربيخة” الذي يجمع بين نور الدين الكحلاوي وابنته مريم نور الدين، في سهرة تحمل طابعًا عائليًا تراثيًا يكرّس التلاقي بين الأجيال.
جاءت البرمجة الخاصة بهذه الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفنون الشعبية بأوذنة، متنوعة وشاملة وحاملة لرؤية واعدة.
ريم خليفة
أوذنة، 26 جويلية 2025