بلسان القلم “من نافذة القطار”
منذ بدأتُ السفر يوميًا بالقطار، وأنا أكتشف أنني لا أتنقّل فقط بين المدن، بل أتنقّل داخلي أيضًا.
النافذة الزجاجية تحولت إلى مرآة خفية، أرى فيها تقاسيم روحي، تعب وجهي، وشغفًا خافتًا لم ينطفئ بعد، وإن تظاهر بالنعاس.
القطار لا ينتظر، وأنا أحاول ألّا أتأخر.
لكنني – رغم كل الترتيبات – أتأخر دومًا عن ملاقاة نفسي.
في كل صباح، أجلس في المقعد ذاته تقريبًا، أخرج دفترًا صغيرًا لا يراه أحد، وأبدأ رحلة الكتابة، لا في الزمان، بل في المعنى.
تمرّ الحقول، الأشجار، قرى نائمة… وأنا أمرّ بي.
أحيانًا، تقفز صورة أمي إلى ذهني، وهي توقظني بملعقة قهوتي تضربها بخفة في الكوب.
صوت ارتبط بالدفء، بالحنان، بفوضى الصباح التي تمنحك شعورًا بالأمان.
وفي أحيان أخرى، أرى أبي…
يحمل صمته كمن يحمل إرثًا ثقيلاً.
عيناه تراقبان العالم ولا تقولان شيئًا، لكنني اليوم أقرأ فيهما ما لم يُكتب قط.
من نافذة القطار، تعلّمت أن الزمن ليس هو الساعات التي تمرّ، بل ما يتساقط منّا ونحن نحاول أن نسايره.
كل محطة هي احتمال لحياةٍ مختلفة، وكل راكب هو قصة غير مكتملة.
في مرةٍ ما، صعد رجلٌ مسنّ، جلس قربي دون أن ينبس بكلمة.
لكن عينيه قالتا الكثير.
كان يحمل كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا…
وأنا حملت عنه ما لم يطلب أن أحمِله.
أدركتُ حينها أن السفر ليس أن تنتقل من مكان إلى آخر، بل أن تفهم أن كل من تراه عابرًا، مرّ من نفق يشبه نفقك.
وأن الخيبات على اختلافها، لها ذات الصوت وهي ترتطم بالقلب.
حين أصل إلى محطتي، أكون قد عشت حياةً كاملة في ساعتين.
أكون نسيت الزحام والروتين، وتذكرت أن داخلي طفل صغير، ما زال يندهش من شكل الغيوم.
هذا النص… كتبته في مقعد 14، نافذة جهة الشرق.
وكانت الشمس – لأول مرة – لا تحرق وجهي، بل تربّت على قلبي.
محمد هادي السحباني