كانت أمّي رحمها اللّه تسأل أحيانا في آخر أيّامها وقد أصيبت بالزهايمر «أنحن في أمس أم في غد؟» [وقد وظّفت هذا في قصيدة لي منشورة]؛ ولم يكن لها، وهي الأمّيّة الحريصة على تعليم أبنائها، شغف بالماضي ولا بالتاريخ؛ ولم تكن معنيّة بهذه المسألة، ولكن ما كان يلفت انتباهي في صيغة سؤالها هو غياب الحاضر أو تكثّف الماضي (أمس) والمستقبل (غد) فيه. بل إنّ ما كان يقضّ مضجعها من حسّ الزمن، أجده وإن بصيغ مختلفة عند آخرين من كتّاب وفلاسفة. يقول ستيفن في رواية جويس «عوليس» وكأنّ التاريخ شبهات مرهقة تثقل كتفيه، أو بداية الصرع كما كان يقول العرب عن الجاثوم أو الباروك أو «النِّيدِلان» أو ما يقع على النائم بالليل: «التاريخ كابوس لا أزال أبذل ضائعا، لكي أستيقظ منه (ترجمتي)». ويقول شوبنهاور في «العالم إرادة وتمثّل»: «إنّ ما يقصّه التاريخ، ليس في الواقع سوى حلم البشريّة الطويل، ووهمها الثقيل المشوّش». ويقول بنيدتو كروتشه قولته الشهيرة، وكأنّنا نرى كرة ترتدّ: «كلّ تاريخ إنْ هو إلاّ تاريخ معاصر [مزامن].» ويقول دو جيل رونارد: «ليس التاريخ سوى أكذوبة[أباطيل]» أو بترجمة قد تكون أبلغ «ليس التاريخ سوى مواعيد عرقوب». ويقول دو أمريكو كاسترو في «واقع اسبانيا»، وكأنّه يذكّرنا بالامبراطوريّات القديمة التي لا تزال حيّة: «على التاريخ أن يحتفظ بالحياة على قيد الحياة». ويقول أناتول فرانس في «بستان أبيقور»: «ليس التاريخ علما، إنّما هو فنّ. ونحن لا نتقنه إلاّ تخيّلا». كلّ هذه الشواهد وغيرها ممّا لا يتّسع له هذا الحيّز، يصلح أن نفتتح به مقالا في التاريخ وتعريف الوقت «التأريخ»، بل «التوريخ» والواو فيه لغة كما يقول صاحب اللسان وهو يقودنا بتؤدة إلى أصل الكلمة، «الأرْخ» (بفتح الهمزة وكسرها) وهو الفَتِيّ من البقر، أو الأنثى البكر منه التي لم ينزُ عليها الثيران؛ فـ»التأْريخ مأْخوذ منه كأَنه شيء حَدَث كما يَحْدُثُ الولد؛ وقيل: التاريخ مأْخوذ منه لأَنه حديث». وهذا المعنى إنّما يتعلّق بعلم التاريخ قديما؛ وهو كما يقول هاملتون جب عن حقّ، اصطلاح من اصطلاحات الأدب العربي الذي يشمل التاريخ الحولي والتراجم؛ ولكنّه لا يشمل التاريخ الأدبي بصفة مقرّرة. على الرغم من أن كلمة «علم» محفوفة في هذا التراث بغموض غير يسير، فقد تعني اليقين ومعرفة الدين، وعدم اتّباع الظن، والسيرَ على الهوى، وقد تعني المعرفة بإطلاق القول، أو استخراج المعاني من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلّية عامّة، أو البحث في خواصّ الأشياء وطبائعها، أي تلك التي يتقرّر اليقين بها من الحسّ والعقل والمشاهدة والتواتر، وقد تعني الخطاب التعليلي المرتهن بمقدّماته وحسن استدلاله، أو ما يسمّى «المعرفة البرهانيّة»، إذ ظلّت فكرة العلّة عند القدماء ـ على ما يبدو ـ صنوا ملازما لفكرة العلم، وظلّ العلم صنوا للعقل، من حيث هو حساب وضبط وقياس وتوازن وتناسب… فلم يكن المقصود بالعلم الاصطلاح الحديث المرتكز على وعي العلم بذاته، من حيث هو مجموع المعارف والدراسات القيميّة التي تتأسّس على القواعد، وتنبذ الأحاديّة والإطلاقيّة، وتخرج «الحقيقة» من نسقيّتها، لتجعلها تابعة للنسق.
على أنّ قولة ألكسيس كلايرال دو توكفيل في «نظام الثورة القديم»: «التاريخ معرض لوحات حيث يعرض قليل جدّا من النسخ الأصليّة، وكثير من اللوحات المقلّدة» قد تضعني في السياق الذي أنا به، وهو الكتابة عن الماضي في تونس اليوم وهي تشقّ طريقها إلى الديمقراطيّة، وإن بصعوبات جمّة داخليّة وخارجيّة.
يقول حبيب القزدغلي أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التونسيّة إنّ هذا النوع من الكتابة لا يشذّ عن القاعدة التي التزمها عديد البلدان غداة «ثوراتها»، إذ «كثيرا ما ترافق مثل تلك المنعرجات السياسيّة الكبرى، ظهور طفرات وعي تشمل مجالات عديدة في المجتمع؛ بما فيها الدعوات إلى (إعادة النظر) في الروايات السائدة ورفض للكتابات السابقة للتاريخ وحملات التبشير بسرديّات (بديلة)».
وهي كلّها على ضرورة تنسيب الحكم، تنشد حقيقة لم تنغمس في الشبهات. على أنّها «حقيقة» لا تنتمي إلى الماضي كما نتوهّم، وإنّما إلى «الحال» أي الحاضر؛ حتى عندما نسترسل مع المؤرّخ وهو يعيد بناء الماضي سواء في جوانبه العامّة أو في جوانب منه مخصوصة مكانا وزمانا؛ فثمّة دائما «منظور» أو وجهة نظر يتخيّرها، حتى وهو يلتزم الأمانة في سرديّاته. والمؤرّخ مطالب بالأمانة وليس بالموضوعيّة.
في تونس التي لا تزال تعيش ثورتها وارتداداتها، تكاد تتحوّل كتابة التاريخ وهي المحفوفة بمماحكات وسجالات قد تكون سياسيّة أو إيديولوجيّة أكثر منها علميّة، إلى فرع من علم الآثار الذي يُعنى من بين ما يُعنى به؛ بترميم الماضي وما فسد من آثاره وتفرّق؛ بعلاجها وصيانتها. وله فروع مثل الكيمياء والجيولوجيا وغيرهما؛ لأنه يتعلّق بموادّ عضويّة وغير عضويّة من منسوجات وأخشاب وبردي وفخّار وزجاج ونقوش ومعادن مثل الذهب والفضّة والبرونز والحديد وغيرها. والتاريخ ليس منها، وإن كان على رأسها، يحتاج إلى مثل هذا الترميم إذ هو بناء لا ينقطع أو هو أبدا هدم وبناء، عسى أن نعيد ترتيب علاقتنا به، ولا نأخذ بالمسلّمات والسمعيّات المقرّرة؛ كلما تعلّق الأمر بـ»حقائقه». والحق أنّ المؤرّخين أو صفوتهم قدماء ومعاصرين أتوا صنيعا كهذا، في تدوين الأحداث على أسس علميّة شهادات ووثائق وآثار؛ وإن أثبتوها في مواضع، وأغفلوها في أخرى، واحتكموا إلى قناعتهم «الوجدانيّة». فنقف من ذلك كله على طرق ومناهج في رواية التاريخ ما نكاد نطمئن إليها، حتى تساورنا من أمر اضطرابها واختلافها ريبة غير يسيرة. ولا يذهبنّ بنا الظنّ بعيدا فنتوهّم أنّ بميسورنا أن نجلوها غير منقوصة، فنرأب صدعا في نص الأحداث التي حملتها الروايات المختلفة، أو نسترد الأصل في جزئياته وتفاصيله. فهذا مطلب لا ريب، بعيد المنال. قد نهمل في التاريخ رواية مجهولة ونسترسل إلى أخرى منسوبة موثّقة، وقد ننحّي الضعيفة ونبقي الأقوى فنفترض عليها شتى الافتراضات، ونثق بعض الثقة من أن أمورها تسير على أصول من المنطق والتعليل؛ ولكنّنا حتى في هذه الحال لن نظفر إلا بنصّ قلق. لكن ربما استطعنا بالنسبة إلى بعض الأحداث التي تُروى روايات عديدة أن نعيد الترتيب «الأصلي» وأن نفرز المنحولات، وأن نستردّ الصورة القديمة بوجه عام. أمّا في التفاصيل فلن نستطيع أبدا أن نتجاوز الرواية المنقولة. بل هي روايات محكومة في تاريخنا المعاصر بـ»خطاب مزدوج» مردّه إلى ما يسمّيه بعض الدارسين «الخبرة الاستعماريّة» التي أحدثت منذ منتصف القرن التاسع عشر تغييرا جذريّا وتحوّلا نوعيّا في ثقافتنا وتاريخنا. وهي خبرة أفضت إلى «شعور بالدونيّة» إزاء التفوّق الغربي القائم على القوّة عسكريّا وتقنيّا وسياسيّا، وإلى تصدّع في البنية الإيديولوجيّة التقليديّة؛ وإن لم تتشظّ تماما أو تنحلّ كما يقول هؤلاء. وهم يتمثّلون لهذا «الخطاب المزدوج» بموقف حزب الوفد المصري من كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» في الثلث الأوّل من القرن العشرين، وموقف حزب الشباب الدستوري في تونس من كتاب رائد الإصلاح الطاهر الحدّاد «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» 1930. فقد كان هذا الخطاب «البراغماتي» ضرورة لا غنى عنها، ولم يكن بورقيبة مثلا وهو نصير المرأة، مساندا للحدّاد في تلك الفترة؛ إذ كان المرتكز هو المسألة الوطنيّة وتحرير تونس من الاستعمار الفرنسي، وليس تجديد الخطاب الديني أو الإصلاح الاجتماعي. وبالرغم من أنّ الحدّاد وهو المتخرّج في جامعة الزيتونة [نظير الأزهر]، كان مشاركا في تأسيس «الحزب الحر الدستوري» التونسي عام 1920 وفي جامعة «عموم العملة» عام 1924، مع محمّد علي الحامي وهي أول نقابة للعمّال في العالم العربي؛ فإنّ بورقيبة المتخرّج في «الصادقيّة» وفي الجامعات الفرنسيّة، لم يتردّد في الثلاثينات، في كتابة مقاله عن الحجاب من حيث هو من سمات هوية الشعب، مسوّغا موقفه بأنّ «الوعي المجتمعي لم يكن جاهزاً بعد لمسألة تحرير المرأة، وإنّما الأولوية لحشد الناس للمطالبة بالاستقلال».
أختتم بما استفتحت، فالخلط التّزمينيّ الذي كانت تعاني منه أمّي بسبب الزهايمر، وهو من أعراض مرضها؛ هو عين ما يبدو لي في علاقة «التّقليد» السّلفيّ بالزّمن، وهو أحد أعراض كتابة التاريخ في تونس اليوم. ذلك أنّ ما يفعله بعض مؤرّخينا قد لا يكون أكثر من تحويل التاريخ إلى ذاكرة تستحضر يوطوبيا مفقودة، واليوطوبيا «اللامكان» مفقودة أبدا؛ إذ هي تتعلّق بمكان خياليّ. لكن ما يفوت التقليد التاريخي هو أنّ اليوطوبيا رؤية مستقبليّة، في حين أنّ الذين يتمسّكون منّا بالسّلف اعتقادا وتقليدا؛ أكانوا من»الإسلاميّين» أو من «البورقيبيّين» ماضويّون؛ أو هم يعيشون حلما أطول من الليل.